فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

سورة الغاشية:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{هَلْ أَتَاكَ حديث الغاشية}
أي: خبرها وقصتها، وهي القيامة.
وأصل {الغاشية} الداهية التي تغشى الناس بشدائدها. والاستفهام للتعظيم والتعجب مما في حيزه، مع تقريره.
{وُجُوهٌ يومئِذٍ خاشعة} أي: ذليلة. وهي وجوه أهل الكفر بالحق والجحود له. والمراد بالوجوه الذوات.
{عاملة ناصبة} قال القاشاني: أي: تعمل دائباً أعمالاً صعبة تتعب فيها، كالهوي في دركات النار، والارتقاء في عقباتها، وحمل مشاق الصور والهيئات المتعبة المثقلة من آثار أعمالها. أو {عاملة} من استعمال الزبانية إياها في أعمال شاقة فادحة من جنس أعمالها التي ضريت بها في الدنيا، وأتعابها فيها من غير منفعة لهم منها إلا التعب والعذاب. وجوز أن يكون {عاملة ناصبة} إشارة إلى عملهم في الدنيا، أي: عملت ونصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة. فيكون بمنزلة حابطة أعمالها. أو جعلت أعمالها هباءً منثوراً كما يدل عليه آيات أخر، ويؤيده مقابلة هذه الآية، لقوله في أهل الجنة {لِسَعْيِهَا راضية} وذلك السعي هو الذي كان في الدنيا. والله أعلم.
{تصلى نَاراً حامية} أي: تدخل ناراً متناهية في الحرارة.
قال القاشاني: أي: مؤذية مؤلمة بحسب ما تزاولها في الدنيا من الأعمال.
{تُسْقَى مِنْ عين آنية} أي: بلغت غايتها في شدة الحر.
{لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضريع} وهو من جنس الشوك، ترعاه الإبل ما دام رطباً، فإذا يبس تحامته، وهو سم قاتل.
قال ابن جرير: الضريع عند العرب نبت يقال له: الشبرَق، وتسميه أهل الحجاز الضريع، إذا يبس. ولا منافاة بين هذه الآية وآية: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36]؛ لأن العذاب ألوان، والمعذبون طبقات فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع، وقيل: الضريع مجاز أو كناية، أريد به طعام مكروه حتى للإبل التي تلتذ برعي الشوك، فلا ينافي كونه زقوماً أو غسلينا.
{لَا يُسْمِنُ} أي: لا يخصب البدن {وَلَا يُغْنِي مِن جوع} أي: لا يسكن داعية النفس ولا نهمها من أجله.
{وُجُوهٌ يومئِذٍ ناعمة} أي: ذات حسن، على أنه من النعومة، كناية عن حسن المنظر. أو {ناعمة} بمعنى متنعمة، على أنه من النعيم.
{لِسَعْيِهَا راضية} أي: لعملها الذي عملته في الدنيا وجدّها في طريق البر واكتساب الفضائل، شاكرة لا تندم ولا تتحسر.
{فِي جَنَّةٍ عالية} أي: مرتفعة المحل. أو رفيعة القدر، من علوّ المكانة.
{لَّا تسمع فِيهَا لاغية} أي: لغواً، أو كلمةً ذات لغو، أو نفساً تلغو؛ لأن كلامهم الحكمة والعلوم والتسبيح والتحميد.
{فِيهَا عين جارية} أي: لا انقطاع لها.
{فِيهَا سُرُرٌ مرفوعة} أي: مرتفعة ليروا إذا جلسوا عليها جميع ما خولوه من النعيم والملك.
{وَأَكْوَابٌ} جمع كوب، وهو إناء لا أذن له {موضوعة} أي: بين أيديهم لا يعوزهم تفقدها.
{وَنَمَارِقُ} أي: وسائد {مصفوفة} أي: فوق الأسِرّة أو في جوانب المساكن للاستناد إليها.
{وَزَرَابِيُّ} أي: بسط {مبثوثة} أي: مفروشة.
وقوله تعالى: {أَفَلا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت} قال أبو السعود: استئناف مسوق لتقدير ما فصل من {حديث الغاشية} وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. والهمزة للإنكار والتوبيخ. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة {كَيْفَ} منصوبة بما بعدها، معلقة لفعل النظر. والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من {الإبل} أي: أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل، فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين، إلى أنها كيف خلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجرِّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إن إظماءها لتبلغ العشر فصاعداً واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك، مما لا يكاد يرعاهُ سائر البهائم، وفي انقيادها مع ذلك الْإِنْسَاْن في الحركة والسكون والبروك والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، ويقتادها كلّ صغير وكبير.
{وَإِلَى السماء} التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار {كَيْفَ رفعت} أي: رفعت كواكبها رفعاً سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكاً لا يختل سيره ولا يفسد نظامه.
{وَإِلَى الجبال} أي: التي ينزلون في أقطارها {كَيْفَ نصبت} أي: أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها، حفظاً للأرض من الميدان.
{وَإِلَى الْأَرْضِ} أي: التي يضربون فيها ويتقلبون عليها {كَيْفَ سطحت} أي: بسطت ومهدت، حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الزمخشري: والمعنى {أفلا ينظرون} إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه.
لطيفة:
ذكر السكاكي في (المفتاح) في بحث الجامع الخيالي، أن جمعهُ على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال، وأنه إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدر، أنى يستحلى كلام ربِّ العزة مع أهل الوبر، حيث يبصرهم الدلائل ناسقاً ذلك النسق {أَفَلا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت} الآيات؛ لبعد البعير عن خياله في مقام النظر، ثم لبعده في خياله عن السماء، وبعد خلقه عن رفعها، وكذا البواقي. لكن إذا وفاهُ حقهُ بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم، جاء الاستحلاء؛ وذلك إذا نظر أن أهل الوبر، إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي، كانت عنايتهم مصروفة لا محالة إلى أكثرها نفعاً وهي الإبل، ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب، كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر، وأهم مسارح النظر عندهم السماء، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يؤويهم وإلى حصن يتحصنون فيه، ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال.
لنا جبلٌ يحتلُّه من نجيرهُ منيعٌ ** يردُّ الطرفَ وهو كليلُ

فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها؟ ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل- ومن لأصحاب مواش بذاك- كان عقد الهمة عندهم بالتنقل من أرض إلى سواها من عزم الأمور، فعند نظره هذا، أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة، أو تعوزه صورة الجبال بعدهما، أو لا تنصّ إليه صورة الأرض تليها بعدهن؟ لا، وإنما الحضري، حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور، وما جمع خيالهُ تلك الصور على ذلك الوجه وإذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت، ظن النسق بجهله معيباً للعيب فيه. انتهى.
{فذكر} أي: من أرسلت إليه بآياته تعالى التي تسوق إلى الإيمان بخالقها الفطرة {إِنَّمَا أَنتَ مذكر} أي: مبلغ ما نسي من أمره تعالى:
{لَّسْتَ عَلَيْهِم بمصيطر} أي: بمتسلط تقهرهم على الإيمان. وقرئ بالصاد على إبدالها من السين.
{إِلَّا مَن تولى وكفر فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعذاب الأكبر} وهو عذاب جهنم. والاستثناء منقطع، أي: لكن من تولى وكفر، فإن لله الولاية والقهر، فهو يعذبه العذاب الأكبر على جحده الحق.
{إِنَّ إِلَيْنَا إيابهم} أي: رجوعهم ومعادهم بالموت والبعث. والجملة تعليل لتعذيبه تعالى بالعذاب الأكبر. وجمع الضمير فيه وفيما بعده، باعتبار معنى {مَن} كما أن إفراده قبل باعتبار لفظها.
{ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم} أي: فنجازيهم بالعذاب الأكبر؛ فإن القهر والغلبة له تعالى وحده. اهـ.

.قال سيد قطب:

سورة الغاشية:
الدرس الأول: 1- 16 بعض مشاهد يوم القيامة الوجوه الخاشعة المعذبة والناعمة المنعمة:
{هل أتاك حديث الغاشية}.. ثم يعرض شيئا من {حديث الغاشية}:
{وجوه يومئذ خاشعة عاملة ناصبة تصلى نارا حامية تسقى من عين آنية ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع}..
إنه يعجل بمشهد العذاب قبل مشهد النعيم؛ فهو أقرب إلى جو {الغاشية} وظلها.. فهناك: يومئذ وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة؛ عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة، ولم تجد إلا الوبال والخسارة، فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا، فهي: {عاملة ناصبة}.. عملت لغير الله، ونصبت في غير سبيله. عملت لنفسها وأولادها. وتعبت لدنياها ولأطماعها. ثم وجدت عاقبة العمل والكد. وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد. ووجدته في الآخرة سوادا يؤدي إلى العذاب. وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل المرهق المتعوس الخائب الرجاء!
ومع هذا الذل والرهق العذاب والألم: {تصلى نارا حامية} وتذوقها وتعانيها.
{تسقى من عين آنية}.. حارة بالغة الحرارة.. {ليس لها طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع}.. والضريع قيل: شجر من نار في جهنم. استنادا إلى ما ورد عن شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم.
وقيل: نوع من الشوك اللاطئ بالأرض، ترعاه الإبل وهو أخضر، ويسمى (الشبرق) فإذا جني صار اسمه (الضريع) ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سام! فهذا أو ذاك هو لون من ألوان الطعام يومئذ مع الغسلين والغساق وباقي هذه الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع!
وواضح أننا لا نملك في الدنيا أن ندرك طبيعة هذا العذاب في الآخرة. إنما تجيء هذه الأوصاف لتلمس في حسنا البشري أقصى ما يملك تصوره من الألم، الذي يتجمع من الذل والوهن والخيبة ومن لسع النار الحامية، ومن التبرد والارتواء بالماء الشديد الحرارة! والتغذي بالطعام الذي لا تقوى الإبل على تذوقه، وهو شوك لا نقع فيه ولا غناء.. من مجموعة هذه التصورات يتجمع في حسنا إدراك لأقصى درجات الألم. وعذاب الآخرة بعد ذلك أشد. وطبيعة لا يتذوقها إلا من يذوقها والعياذ بالله!
{وُجُوهٌ يومئِذٍ ناعمة (8) لِسَعْيِهَا راضية (9) فِي جَنَّةٍ عالية (10) لَّا تسمع فِيهَا لاغية (11) فِيهَا عين جارية (12) فِيهَا سُرُرٌ مرفوعة (13) وَأَكْوَابٌ موضوعة (14) وَنَمَارِقُ مصفوفة (15) وَزَرَابِيُّ مبثوثة (16)}
وعلى الجانب الآخر: {وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية في جنة عالية لا تسمع فيها لاغية فيها عين جارية فيها سرر مرفوعة وأكواب موضوعة ونمارق مصفوفة وزرابي مبثوثة}..
فهنا وجوه يبدو فيها النعيم. ويفيض منها الرضى. وجوه تنعم بما تجد، وتحمد ما عملت. فوجدت عقباه خيرا، وتستمتع بهذا الشعور الروحي الرفيع. شعور الرضى عن عملها حين ترى رضي الله عنها. وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته، ثم يراها ممثلة في رضي الله الكريم. وفي النعيم. ومن ثم يقدم القرآن هذا اللون من السعادة على ما في الجنة من رخاء ومتاع، ثم يصف الجنة ومناعمها المتاحة لهؤلاء السعداء:
{في جنة عالية}.. عالية في ذاتها رفيعة مجيدة. ثم هي عالية الدرجات. وعالية المقامات. وللعلو في الحس إيقاع خاص.
{لا تسمع فيها لاغية}.. ويطلق هذا التعبير جوا من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية، لا خير فيها ولا عافية.. وهذه وحدها نعيم. وهذه وحدها سعادة. سعادة تتبين حين يستحضر الحس هذه الحياة الدنيا، وما فيها من لغو وجدل وصراع وزحام ولجاج وخصام وقرقعة وفرقعة. وضجة وصخب، وهرج ومرج. ثم يستسلم بعد ذلك لتصور الهدوء الآمن والسلام الساكن والود الرضي والظل الندي في العبارة الموحية: {لا تسمع فيها لاغية} وألفاظها ذاتها تنسم الروح والندى وتنزلق في نعومة ويسر، وفي إيقاع موسيقي ندي رخي! وتوحي هذه اللمسة بأن حياة المؤمنين في الأرض وهم ينأون عن الجدل واللغو، هي طرف من حياة الجنة، يتهيأون بها لذلك النعيم الكريم.
وهكذا يقدم الله من صفة الجنة هذا المعنى الرفيع الكريم الوضيء. ثم تجيء المناعم التي تشبع الحس والحواس. تجيء في الصورة التي يملك البشر تصورها. وهي في الجنة مكيفة وفق ما ترتقي إليه نفوس أهل الجنة. مما لا يعرفه إلا من يذوقه!
{فيها عين جارية}.. والعين الجارية: الينبوع المتدفق. وهو يجمع إلى الري الجمال. جمال الحركة والتدفق والجريان. والماء الجاري يجاوب الحس بالحيوية وبالروح التي تنتفض وتنبض! وهو متعة للنظر والنفس من هذا الجانب الخفي، الذي يتسرب إلى أعماق الحس.
{فيها سرر مرفوعة}.. والارتفاع يوحي بالنظافة كما يوحي بالطهارة.. {وأكواب موضوعة}.. مصفوفة مهيأة للشراب لا تحتاج إلى طلب ولا إعداد! {ونمارق مصفوفة}.. والنمارق الوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح! {وزرابي مبثوثة}.. والزرابي البسط ذات الخمل (السجاجيد) مبثوثة هنا وهناك للزينة وللراحة سواء!
وكلها مناعم مما يشهد الناس له أشباها في الأرض. وتذكر هذه الأشياء لتقريبها إلى مدارك أهل الأرض. أما طبيعتها وطبيعة المتاع بها فهي موكولة إلى المذاق هناك. للسعداء الذين يقسم الله لهم هذا المذاق!
ومن اللغو الدخول في موازنات أو تحقيقات حول طبيعة النعيم- أو طبيعة العذاب- في الآخرة. فإدراك طبيعة شيء ما متوقف على نوع هذا الإدراك. وأهل الأرض يدركون بحس مقيد بظروف هذه الأرض وطبيعة الحياة فيها. فإذا كانوا هناك رفعت الحجب وأزيلت الحواجز وانطلقت الأرواح والمدارك، وتغيرت مدلولات الألفاظ ذاتها بحكم تغير مذاقها، وكان ما سيكون، مما لا نملك أن ندرك الآن كيف يكون!
إنما نفيد من هذه الأوصاف أن يستحضر تصورنا أقصى ما يطيقه من صور اللذاذة والحلاوة والمتاع. وهو {أَفَلَا ينظرون إِلَى الإبل كَيْفَ خلقت (17) وَإِلَى السماء كَيْفَ رفعت (18)}
ما نملك تذوقه ما دمنا هنا. حتى نعرف حقيقته هناك. حين يكرمنا الله بفضله ورضاهـ.
الدرس الثاني: 17 دعوة للتأمل في آيات الله في الكون:
وتنتهي هذه الجولة في العالم الآخر، فيؤوب منها إلى هذا الوجود الظاهر. الحاضر. الموحي بقدرة القادر وتدبير المدبر، وتميز الصنعة، وتفرد الطابع. الدال على أن وراء التدبير والتقدير أمرا بعد هذه الحياة، وشأنا غير شأن الأرض. وخاتمة غير خاتمة الموت:
{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت}..
وتجمع هذه الأيات الأربعة القصار، أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة. كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله. حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال ممثلة لسائر الحيوان على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة.
إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان.. السماء والأرض والجبال والحيوان.. وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه. موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها.
والمعجزة كامنة في كل منها. وصنعة الخالق فيها معلمة لا نظير لها. وهي وحدها كافية لأن توحي بحقيقة العقيدة الأولى. ومن ثم يوجه القرآن الناس كافة إليها:
{أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}.. والإبل حيوان العربي الأول. عليها يسافر ويحمل. ومنها يشرب ويأكل. ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل. فهي مورده الأول للحياة. ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان. فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد، وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف. مرعاها ميسر، وكلفتها ضئيلة، وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال.. ثم إن لهيئتها مزية في تناسق المشهد الطبيعي المعروض كما سيجيء..
لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل؛ وهي بين أيديهم، لا تحتاج منهم إلى نقلة ولا علم جديد.. {أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت}.. أفلا ينظرون إلى خلقتها وتكوينها؟ ثم يتدبرون: كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها، المحقق لغاية خلقها، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا! إنهم لم يخلقوها. وهي لم تخلق نفسها، فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته، التي تدل عليه، وتقطع بوجوده؛ كما تشي بتدبيره وتقديره.
{وإلى السماء كيف رفعت}.. وتوجيه القلب إلى السماء يتكرر في القرآن. وأولى الناس بأن يتوجهوا إلى السماء هم سكان الصحراء. حيث للسماء طعم ومذاق، وإيقاع وإيحاء، كأنما ليست السماء إلا هناك في الصحراء!
السماء بنهارها الواضح الباهر الجاهر. والسماء بأصيلها الفاتن الرائق الساحر. والسماء بغروبها البديع الفريد الموحي. والسماء بليلها المترامي ونجومها المتلألئة وحديثها الفاتر. والسماء بشروقها الجميل الحي السافر.
هذه السماء. في الصحراء.. أفلا ينظرون إليها؟ أفلا ينظرون إليها كيف رفعت؟ من ذا رفعها بلا عمد؟ ونثر فيها النجوم بلا عدد؟ وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال وهذا الإيحاء؟ إنهم لم يرفعوها وهي لم ترفع نفسها. فلابد لها من رافع ولابد لها من مبدع. لا يحتاج الأمر إلى علم ولا إلى كد ذهن. فالنظرة الواعية وحدها تكفي...
{وَإِلَى الجبال كَيْفَ نصبت (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سطحت (20) فذكر إِنَّمَا أَنتَ مذكر (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بمصيطر (22)}
{وإلى الجبال كيف نصبت}.. والجبال عند العربي- بصفة خاصة- ملجأ وملاذ، وأنيس وصاحب، ومشهدها يوحي إلى النفس الإنسانية- بصفة عامة- جلالا واستهوالا. حيث يتضاءل الإنسان إلى جوارها ويستكين، ويخشع للجلال السامق الرزين. والنفس في أحضان الجبل تتجه بطبيعتها إلى الله؛ وتشعر أنها إليه أقرب، وتبعد عن واغش الأرض وضجيجها وحقاراتها الصغيرة. ولم يكن عبثا ولا مصادفة أن يتحنث محمد صلى الله عليه وسلم في غار حراء في جبل ثور. وأن يتجه إلى الجبل من يريدون النجوة بأرواحهم فترات من الزمان!
والجبال هنا {كيف نصبت} لأن هذه اللمحة تتفق من الناحية التصويرية مع طبيعة المشهد كما سيجيء.
{وإلى الأرض كيف سطحت}.. والأرض مسطوحة أمام النظر، ممهدة للحياة والسير والعمل، والناس لم يسطحوها كذلك. فقد سطحت قبل أن يكونوا هم.. أفلا ينظرون إليها ويتدبرون ما وراءها، ويسألون: من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيدا؟
إن هذه المشاهد لتوحي إلى القلب شيئا. بمجرد النظر الواعي والتأمل الصاحي. وهذا القدر يكفي لاستجاشة الوجدان واستحياء القلب. وتحرك الروح نحو الخالق المبدع لهذه الخلائق.
ونقف وقفة قصيرة أمام جمال التناسق التصويري لمجموعة المشهد الكوني لنرى كيف يخاطب القرآن الوجدان الديني بلغة الجمال الفني، وكيف يعتنقان في حس المؤمن الشاعر بجمال الوجود.. إن المشهد الكلي يضم مشهد السماء المرفوعة والأرض المبسوطة. وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال منصوبة السنان لا راسية ولا ملقاة، وتبرز الجمال منصوبة السنام.. خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة. ولكنها لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات! على طريقة القرآن في عرض المشاهد، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال.
الدرس الثالث: 21- 26 واجب الرسول التذكير وتهديد الكفار بالعذاب:
والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة، يلتفت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يوجهه إلى حدود واجبه وطبيعة وظيفته، ويلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة الموقظة:
فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر. إلا من تولى وكفر. فيعذبه الله العذاب الأكبر. إن إلينا إيابهم. ثم إن علينا حسابهم..
فذكر بها وذاك. ذكرهم بالآخرة وما فيها. وذكرهم بالكون وما فيه. إنما أنت مذكر. هذه وظيفتك على وجه التحديد. وهذا دورك في هذه الدعوة، ليس لك ولا عليك شيء وراءه. عليك أن تذكر. فإنك ميسر لهذا ومكلف إياهـ.
{لست عليهم بمسيطر}.. فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئا. حتى تقهرها وتقسرها على الإيمان. فالقلوب بين أصابع الرحمن، لا يقدر عليها إنسان.
فأما الجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان. إنما كان لإزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس. فلا يمنعوا من سماعها. ولا يفتنوا عن دينهم إذا سمعوها. كان إزالة العقبات من طريق التذكير. الدور الوحيد الذي يملكه الرسول.
وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شيء إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى.
{إِلَّا مَن تولى وكفر (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعذاب الأكبر (24) إِنَّ إِلَيْنَا إيابهم (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حسابهم (26)}
في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ، وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء. فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير، إلحاح عنيف جدا يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال الدعوة، كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة، وكائنة ما كانت العاقبة. فلا يعني نفسه بهم من آمن وهم من كفر. ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة، وتقل الاستجابة، ويكثر المعرضون والمخاصمون.
ومما يدل على إلحاح الرغبة البشرية في انتصار دعوة الله وتذوق الناس لما فيها من خير ورحمة، هذه التوجيهات المتكررة للرسول صلى الله عليه وسلم وهو من هو تأدبا بأدب الله ومعرفة لحدوده ولقدر الله.. ومن ثم اقتضى إلحاح هذه الرغبة هذا العلاج الطويل المتكرر في شتى الأحيان..
ولكن إذا كان هذا هو حد الرسول، فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد. ولا يذهب المكذبون ناجين، ولا يتولون سالمين. إن هنالك الله وإليه تصير الأمور:
{إلا من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر}..
وهم راجعون إلى الله وحده قطعا، وهو مجازيهم وحده حتما. وهذا هو الإيقاع الختامي في السورة في صيغة الجزم والتوكيد.
{إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم}..
بهذا يتحدد دور الرسول في هذه الدعوة. ودور كل داعية إليها بعده.. إنما أنت مذكر وحسابهم بعد ذلك على الله. ولا مفر لهم من العودة إليه، ولا محيد لهم من حسابه وجزائه. غير أنه ينبغي أن يفهم أن من التذكير إزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس وليتم التذكير. فهذه وظيفة الجهاد كما تفهم من القرآن ومن سيرة الرسول سواء، بلا تقصير فيها ولا اعتداء.. اهـ.